أَرْض العراق .. أتيتك

هذه القصيدة تحتوي على جميع أنواع الشعر بما فيها الزجل.. ولهذا قيل: قصيدة شربل بعيني هزّت المربد الشعري في العراق

ـ1ـ
أَرضَ الْعِراقِ.. أَتَيْتُكِ
وَالْهَجْرُ يَغْتالُ البَنينْ
عُمْري انْتَهى،
وَصَبابَتي
تَحْكي حَكايا غُرْبَتي:
كَيْفَ احْتَبَسْتُ القَهْرَ أَعْواماً
وَعارَكْتُ الحَنينْ
كَيْفَ احْتَرَفْتُ الْقَفْزَ مِنْ شَكٍّ إلى شَكٍّ
لأَحْظَى بِالْيَقينْ..
ـ2ـ
أَرْضَ الْعِراقِ.. أَتَيْتُكِ
مُدِّي الْيَدَيْنِ إلى الْحَبيبْ
إنّي سَكَبْتُكِ مِنْ عُيونِيَ "دِجْلَةً"
أوّاهُ.. كَمْ يَبْكِي الْغَريبْ
وَرَسَمْتُ وَجْهَكِ ساطِعاً
كالشَّمسِ.. لا يَخْشَى الْمَغيبْ
جَدَّلْتُ شَعْرَكِ بالْوُرودِ، كَأَنَّما،
تَنْسابُ عِنْدَ سُفوحِهِ أَنْهارُ طيبْ
زَيَّنْتُ ثَغْرَكِ بِالْكَواكِبِ،
وانْتَشى الْخَدَّانِ حينَ تَسامَرَتْ،
بِالْقُرْبِ مِنْ أُذُنَيْكِ،
أَقْلامُ أَديبْ..
ـ3ـ
أَرْضَ الْبُطولَةِ
والرُّجولَةِ
والصَّبايا الْباسِلاتْ
هَلْ تَذْكُرينَ مُهاجِراً
ضاقَتْ بِهِ الأَوطانُ ، فَاغْتَرَبَ.. وَماتْ؟!
وَبِعَيْنِهِ لَهَبُ الدُّموعِ
بِقَلْبِهِ فَيْضُ الرُّجوعِ
بِعُمْقِ .. عُمْقِ الصَّدْرِ وَخْزُ الذُّكْرَياتْ
مَنْ غَيْرُكِ؟!..
تَلْتاعُ فَوقَ ضَريحِهِ نَسَماتُها
تَحْنو عَلَيْهِ بِغَمْرَةٍ
وَبِهَمْسَةٍ
وَبِقُبْلَةٍ ..
وَاللّهِ لَولا المِرْبَدُ
لا شَيْءَ يُعْطيهِ الْحَياةْ.
ـ4ـ
حينَ الْتَقَيْتُكِ ..
شَالَني الفَجْرُ عَلَى أَكْتافِ يَقْظَتِهِ
فَماتَتْ فِيَّ أَوْهامي،
وَصِرْتُ أَعْشَقُ الظِّلَّ..
أَنا الْهَرْبانُ مِنْ ظِلٍّ ثَقيلِ الوَقْعِ قُدَّامي.
وَصِرْتُ أَحْرُثُ اللَّيْلَ لأَبْذُرَ فيهِ أَنْغامي،
وَأَرْكُضُ في شَوارِعِكِ
لأُرْجِعَ زَهْوَةَ الْماضي
وَأُمْسِكَ بَعضَ أحْلامي..
هُنا اللَّحَظاتُ، يا أَرْضي،
تُساوي كُلَّ أَيَّامي.
ـ5ـ
هَلْ جَنَّةٌ في الأرْضِ، إِلاّكِ،
تُسَيِّجُها الضُّلوعْ؟؟
أَوْ يَسْتَحيلُ الشِّعْرُ في أَحْيائِها سَمَكاً
لإِطْعامِ الجُموعْ؟!
وَالأُمَّهاتُ الطَّاهِراتُ الْحالِماتُ
بِزَغْرَداتِ الْحُضْنِ.. ساعاتِ الرُّجوعْ
يَغْزِلْنَ مِنْ أَشْواقِهِنَّ مَعاطِفاً
لِشَبابِهِنَّ السَّاهِرينَ اللَّيْلَ كَيْ تَغْفُوْ الرُّبوعْ
لِبَناتِهِنَّ الطَّالِعاتِ مِنَ الْجِراحِ،
كَثَوْرَةٍ،
تَأْبَى الْخِداعَ أَوِ الْخُضوعْ!!
ـ6ـ
هَلْ يُحْسِنُ الإِنْسانُ، لَوْلاكِ،
اخْتِزالَ الْعُمْرِ في أُسْبوعْ؟!
أوِ انْتِظارَ الْقَمْحِ مِنْ سَنَةٍ إلى سَنَةٍ
عَلَى بَيادِرِ جُوعْ؟!
هَلْ يَحصُدُ الإنْسانُ أَعْراساً وَأَفْراحاً
وَفي الْحَقلِ دُموعْ؟!
أَنْتِ، يا أَرْضَ الْعِراقِ، حِكايَةٌ
فاحَتْ بِها الأَمْجادُ
واخْضَرَّ الْخُشوعْ.
ـ7ـ
قَد تَضْحَكينَ، وَأَنْتِ الضَّادُ،
مِنْ نُطْقي، وَمِنْ لُغَتي..
وَمِنْ شِعْرٍ غَريبِ السَّبْكِ
يَحْمِلُ وَشْمَ مَحْبَسَتي.
قَدْ تَضْحَكينَ.. وَلكِنْ، ضِحْكَةَ الأُمِّ
الَّتي ابْتَهَجَتْ بِطِفْلٍ تَمْتَمَ: 
يَمَّا..
فَيا أُمِّي..
بِغَرْبٍ ضَمَّني طِفلاً
تَرَكْتُكِ أَنْتِ "سَيِّدَتي"
وَنَشْرَ الضَّادِ أُمْنِيَتي
وَفَوْقَ شِراعِ أَسْفاري
كَتَبْتُ كَلامَ أُغْنِيَتي:
"هَيْهاتْ يا بو الزّلُفْ
عَيْني يا مُولَيَّا
بَغْداد هِيِّي الْقَلِبْ
وْلُبنانْ عينَيَّا.."
ـ8ـ
لُبنانُ، يا بَغْدادُ، كَمْ سَنَةٍ
يَقْتاتُ مِنْ أَكْبادِهِ الأَلَمُ
هَلْ يَنْتَهي الإنسانُ في وَطَنٍ
كانَتْ تُناغي أَرْضَهُ الْقِيَمُ
أَعْداؤهُ الأَوغادُ هَمُّهُمُ
أَن يُسكِرَ المُسْتَنقعاتِ دَمُ
أَوصافُهُمْ، إن شِئْتِ، أَكْتُبُها
كَيْ تَعْلَمي كَمْ يَخْجَلُ الْقَلَمُ
ـ9ـ
لُبنانُ، يا بَغْدادُ، مَعْبَدُنا
فيه ارْتَدَتْ أَرْواحَنا الْكِلَمُ
وَالْيَومَ.. تَدعو اللّهَ أَلْسِنَةٌ
يَغْفو عَلَى أَحْناكِها الصَّنَمُ
قَدْ قَسَّمَتْ أَوْطانَنا ضِيَعاً
وَالشَّعْبُ يَدْري كَيْفَ يَنْتَقِمُ
ـ10ـ
لُبنانُ، يا بَغدادُ، أُغْنِيَةٌ
تاهَتْ، فَتاهَ اللَّحْنُ والنَّغَمُ
كُلُّ الْجِبالِ الْعالِياتِ هَوَتْ
حينَ احْتَوانا بِكَفِّهِ الْعَدَمُ
حَتَّى اخْضِرارُ الأَرْضِ لَيْسَ سِوى
صَحْراءَ تَخْبو تَحْتَها الْحِمَمُ
ـ11ـ
مُسْتَفْعِلُنْ مُسْتَفْعِلُنْ فَعِلُنْ
تَفْعيلَةٌ تَرديدُها سَأَمُ
تَجْتَرُّنا الأَوزانُ حادِيَةً
وَالشَّعْبُ في أَبْدانِهِ السَّقَمُ
مَنْ ذا يَقيسُ الشِّعْرَ في زَمَنٍ
يَرْتابُ مِنْ أَلْوانِهِ الْعَلَمُ
ـ12ـ
أَقدارُنا تَنهالُ ضارِيَةً
إَن لَم نُقاوِمْ لَفَّنا النَّدَمُ
قَد تَجْرُفُ الأحقادُ أُمَّتَنا
قَد تُمَّحى مِنْ طَيْشِنا الْحِكَمُ
قَد نَنْزَوي وَالْكَونُ يَرْذُلُنا
قَد تَرْتَوي مِن دَمْعِنا الدِّيَمُ
لكِنَّنا.. وَالْحَقُّ في يَدِنا
نَبْقى، لِتَبْقى بَعدَنا الأُمَمُ
ـ13ـ
أَرضَ العِراقِ.. أَتَيْتُكِ
مُتَعَطِّراً بِالْياسَمينْ
كَي تَعرِفي الْمَحْبوبَ
مِن بَينِ أُلوفِ الزّائِرينْ..
الوافِدينَ إِلَيْكِ يا بَيْتَ الرَّسولِ،
وَدَيْرَ عيسى،
وَكُلِّ.. كُلِّ الْمُرْسَلينْ..
يا نَجْمَةَ الشَّرْقِ الْبَهِيَّةَ في سَماءِ الغائبينْ
إِنِّي أَتَيْتُكِ.. فَافْتَحي الشُّباكَ
لا أَخْشى عُيونَ الْحاسِدينْ!!..
المربد - بغداد 1987
**